[تنشر جدلية بالاشتراك مع مجموعة الـدكتافون ومؤسسة "آرت-ايست" نصوصاً تتناول الحق في الوصول إلى الشاطىء في العالم العربي تحت عنوان "من هنا البحر". نشرت هذه النصوص باللغة الانكليزية على موقع آرت-ايست. تنشر سلسلة "من هنا البحر" تباعاً على موقع جدلية خلال الأسبوع القادم. ]
التقينا أبو حسين عندما كنا مرة جالسين في مقهى "أبو عضل" في الدالية في بيروت. أخبرنا بأنه من الصيادين العشرة الذين طردوا من غرفهم المطلة على البحر التي كانت تقع تحت مقهى "جراند كافيه" على الساحل الجنوبي لبيروت. لقد استخدم الصيادون هذه الغرف على مدى السنوات الأربعين الماضية وهي أيضاً مدة وجود المقهى هناك. لكن المقهى لم يكن يبدو مثل اليوم. منذ أن قرر أصحاب المقهى "ترقيته" عام 2010 رأوا أن وجود الصيادين غير مرغوب فيه بينهم ومصدر إزعاج للصورة الجديدة التي يحاول المقهى تصويرها. هكذا تم إخلاء الصيادين ومنح كل واحد منهم تعويضاً مالي بقدرة 4000 دولاراً أمريكي وتم نقلهم إلى غرف صيادين جديدة في منطقة الدالية.
اليوم يواجه صيادو الدالية معركة مماثلة إذ استلموا مؤخراً دعوى قضائية لإخلاء المنازل التي كانوا قد بنوها بشكل غير رسمي منذ الخمسينات. إخلاء الصيادين يشير الى مشروع عقاري خاص يخطط له في الدالية.
كل موقع على ساحل بيروت له قصة مختلفة. عممت تقارير عديدة حول الطرق التي يتم من خلالها إغلاق البحر تدريجياً عن العامة. كما وأفادت دراسات حول استعمال بعض القانونين أو استثناءً على قانون معين أو تعدياً على قانون من قبل النخبة السياسية لتمكين بناء فنادق كبرى ومنتجعات بحرية خاصة تستقبل شريحة محدودة من الناس فقط.
في الواقع منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990 وتشهد بيروت أشكالاً متنوعة من السيطرة على الفضاء العام. تحديداً، لقد رأت المدينة الاختفاء التدريجي لأراضيها الساحلية التي كان بإمكان العامة الوصول إليها. حدث ذلك وما يزال من خلال إباحة خصخصة الخط الساحلي الذي شهدناه خلال سنوات الحرب الأهلية وحتى قبل ذلك أيضاً.
في هذا السياق تم تخيل مشروع "هذا البحر لي". هو عرض حي أدائي مرتكز على بحث حول الموقع نستكشف من خلاله مفاهيم الوصول إلى البحر والفضاء العام في جميع أنحاء المدينة مرتكزين على شاطىء بيروت. لقد دعي الجمهور للمشاركة في رحلة على متن قارب صيد من ميناء الصيادين في عين المريسة وصولاً الى الدالية وشاطئ الرملة البيضاء.
توقفنا أثناء الرحلة عند كل منتجع وكشفنا ملكية عقاره والقوانين التي تحكمه وممارسات مستخدميه. اعتمد المشروع في تطويره على البحث الميداني والتعاون مع العديد من الصيادين وجمع التاريخ الشفوي ودراسة النصوص القانونية. جنباً إلى أدائنا عرضاً حياً خاص في الموقع تم أيضاً طبع ونشر كتيب بحث يتضمن خرائط من نتائج البحث ونصوص وروايات شفوية. وزع الكتيب على الصيادين المحليين وجمهور العرض والعديد من الأماكن العامة في بيروت كما واستخدم كأداة خلال العرض.
في إشارة إلى الخريطة الرئيسية في الكتيب بدأت الرحلة جنب "خليج الزيتونة" وهو قسم من كورنيش البحر حيث يتم مراقبة العامة عن كثب من قبل جيش من الحرس الخاص وكاميرات المراقبة. أنها منطقة مارينا جديدة تم إنشاؤها على أنقاض ميناء تاريخي للصيادين وقد تحول الآن إلى احدى أغلى العقارات السكنية في المنطقة.
توقف القارب عند منتجع "الريفيارا" الذي يقع في المنطقة التاسعة من مخطط بيروت سنة 1954 الذي يمنع أي بناء فيها. مع ذلك تمكن منتجع "الريفيارا" من الاستفادة من مرسوم 4810 الصادر سنة 1966 والذي يسمح باستغلال الملك العام من قبل المنتجعات الخاصة.
رحلتنا تمر بالقرب من "الحمام العسكري" وهو منتجع ضخم على الشاطئ فيه برك سباحة ومطاعم وملاعب وشاليهات. يملك هذا المشروع الجيش اللبناني ويستخدمه كنادي للضباط. أقيمت جميع مباني هذا المنتجع على أراضي عامة حيث يحظر التنظيم المدني أي شكل من أشكال البناء مما يعني أن هذا المشروع غير قانوني بتاتاً.
تستمر الرحلة وتمر عبر عدة حالات مماثلة وقبل الوجهة الأخيرة نعرض على الجمهور حالة فندق "الموفنبيك". هذا العقار يكمن في المنطقة العاشرة من الخطة الرئيسية لبيروت عام 1954 التي تسمح بالبناء على 15٪ فقط من العقار مع أقصى ارتفاع لا يتجاوز التسعة أمتار وعليه أن يكون بالتحديد لممارسة الرياضات والأنشطة البحرية. رغم ذلك تمكن رجل من عائلة ضاهر شراء هذا العقار خلال الحرب الأهلية عام 1986 تحت اسم شركة "ميريلاند". ومن خلال علاقاته مع الطبقة السياسية في ذلك الوقت استطاع أيضاً تحصيل رخصة بناء لتنفيذ فندق من عشر طوابق يستعمل أغلبية مساحة العقار. كما وتمكن ضاهر عام 1988 من الحصول على رخصة بناء من خلال "مرسوم رئاسي" مدعياً أنه لم يكن باستطاعته استشارة الجهات المختصة بالتراخيص!
الفضاء العام كما يستخدم
على الرغم من الظروف المذكورة أعلاه أو ربما أحياناً بسبب هذه الظروف ما زال سكان بيروت يستخدمون عدداً محدوداً من المناطق المفتوحة في المدينة. تستعمل هذه المساحات باعتبارها "عامة" بمعنى أنه يتم الوصول إليها بحرية والسماح لمجموعة من الأنشطة الاجتماعية الغير محصورة أن تحدث فيها. في هذه الحالات قد يتم تأمين الوصول إلى هذه الأماكن من خلال إتفاقات إجتماعية ومجتمعية يتم من خلالها تنظيم استخدامات هذه الأمكنة.
واحدة من هذه الحالات هو مقصدنا الأخير في رحلة "هذا البحر لي" وهي "دالية" بيروت.
الدالية هو اسم قطعة كبيرة من الأرض البحرية أمام صخرة الروشة وتمتد بين فندق "الموفنبيك" وكورنيش البحر. تتكون الأرض من عدة عقارات خاصة كبيرة. أعلن هذا الموقع منذ الأربعينات كأرض غير مبنى عليها تعود ملكيتها لأسر عديدة.
لكن دالية بيروت تستخدم اليوم كواحدة من الأماكن العامة الرئيسية في المدينة. تعم بمرفئي صيد والعديد من الأكشاك الغير رسمية على شاطئ البحر وسيل من الزائرين للتمتع بالبحر والتنزه والسباحة. الدالية هي الوجهة الرئيسية للسباحين والغواصين الذين يأتون من مناطق مختلفة من بيروت لممارسة شغفهم في القفز من المنحدرات العالية في مياه البحر الأبيض المتوسط. في الذاكرة الشعبية للبيروتيين لطالما حصلت هذه الممارسة في الدالية. كما وتشمل الدالية مجموعة متنوعة من الفئات الاجتماعية مثل الصيادين البيروتيين وسكان الضواحي واللاجئين العراقيين والعمال واللاجئين السوريين وغيرهم.
رغم أن الدالية متكونة تاريخياً من عقارات مملوكة من قبل العديد من العائلات البيروتية هناك عدد لا يحصى من القصص التي تحكي أنه منذ خمسينات القرن الماضي كان يتم استخدامها كوجهة نزهة معروفة خاصةً في أيام العطل ونهاية الأسبوع. حتى السبعينات كانت تتجمع الاسر فيها في كل نهار جمعة مع مأكولات ومشروبات وأراكيل يستمتعون بالعزف على العود أو البزق أو الطبلة. كان يسمى هذا النشاط بالسيران وهي الممارسة التي يقوم بها البعض في مناطق تنزه محددة. بالإضافة إلى ذلك وحتى الستينات كانت الدالية وشاطئ الرملة البيضاء يستضيفان سنوياً احتفالات النبي أيوب حيث يأتي سكان أحياء مختلفة في بيروت معاً لتنظيم مسيرة إلى شاطئ البحر وتقدم النساء الطبق البيروتي التقليدي الشهي المسمى بالمفتقة ويلعب الأطفال بالطائرات الورقية.
في وصف كيف يمارس الفضاء العام في الدالية من الضروري أن نفهم أنها مساحة تتكون على شكل الفئات الاجتماعية التي تشغلها وكنتيجة لممارسات اجتماعية. ما يثير اهتمامنا بشكل خاص في وضع الدالية انها تضع في موضع تساؤل الفكرة الحديثة الشائعة حول الأماكن العامة التي ترتبطها في الدولة من خلال منح مساحات مخصصة في المدينة بما يسمى "حديقة عامة" أو غيرها.
تفتح لنا الدالية إمكانيات جديدة لفهم الفضاء العام في بيروت كمساحات من التفاوض من خلال التفاعلات اليومية بين روادها وسكانها وبالتالي هي أماكن لا يمكن التنبؤ بها مسبقاً. هذا الشعور بالمفاجأة المستمرة بالمكان كان أيضا سمة من السمات الرئيسية لعرض "هذا البحر لي" نفسه.
الفن الحي كوسيلة احتجاج
تأسست مجموعة الدكتافون بهدف تزويج البحث المديني بفن العروض الحية. الفكرة وراء هذا التعاون هو تعميم البحوث الأكاديمية من خلال اعطاء الجمهور فرصة لبناء علاقة مع الفضاء المدروس. كما وإنَ اتمام تدخلات مباشرة في الأماكن العامة يمكن اعتبارها بمثابة عمل سياسي يهدف للتغيير. لعل هذا هو السبب في وصف عرض "هذا البحر لي" من قبل بعض وسائل الإعلام على أنه "اعتصام".
الفكرة وراء العرض الحي أن مجموعة من الناس وهم عدد صغير من الجمهور وصياد ومؤدية يدخلون معاً على متن قارب صيد الى المنتجعات الخاصة على شاطئ بيروت آتين من البحر لمحاولة السباحة هناك مجاناً.
متسلحين بقوانين قديمة توضح أن الشاطئ حيث تصل مياه البحر هو مجال عام عبرنا الحدود التي وضعتها بعض المنتجعات الخاصة قي البحر وسبحنا مجاناً حيث كان يسبح أخرون مقابل بطاقات دخول باهظة الثمن تضمن أنَ الأغنياء والنخبة هم فقط القادرين على التمتع بالبحر. في وضع جسد المؤدية وأجساد الجمهور في أماكن غير مرغوب فيها تحول هذا العمل لفعل احتجاجي يهدف الى إعادة البحر والأماكن العامة المسروقة في المدينة.
قدم هذا العرض التفاعلي للجمهور فرصة لإعادة بناء اتصال مفقود مع البحر خارج التجربة المهيمنة للمنتجعات الخاصة والاستماع إلى قصص صياد كبير في السن قضى حياته على البحر وقصص حميمة عن صيادين أخرين منهم من ولد على الشاطئ وعانى من تهديدات مختلفة تجبره وعائلته على إخلاء بيوتهم. كما وشاركنا الجمهور هو أيضاً بقصص جديدة وبات نص العرض ينمو يومياً اذ نضيف اليه قصص الجمهور.
من شارك في العرض تأثر في جوانب مختلفة منه. البعض غضب عندما علم كيف تمكنت الشركات الخاصة والنخبة السياسية من استغلال شاطئ البحر تدريجياً وكيف خدعت بعض الأسر لبيع أراضيها. البعض الآخر أخذ يحلم بتفجير المباني الشاهقة التي تحجب منظر البحر. وأعرب البعض عن فرحتهم برؤية المدينة للمرة الأولى من منظور آخر أي البحر.
فتح مشروع "هذا البحر لي" نقاشا واسعاً حول الحيز العام في المدينة. حدث ذلك في الوقت الذي ظهرت فيه مبادرات أخرى تشاركنا المخاوف عينها على المدينة مثل مبادرة "مشاع" و"شط شطك". منذ ذلك الحين ونحاول في مجموعة الدكتافون المحافظة على هذا النقاش حول حقنا في الوصول الى البحر واستمرار عرض "هذا البحر لي". حولنا مؤخراً نص وتجربة العرض الى قطعة صوتية يمكن للجمهور تحميلها على هواتقهم والاستماع اليها خلال رحلة بحرية على متن قارب صيد أو خلال نزهة على كورنيش بيروت انطلاقاً من مرفأ الصيادين في عين المريسة ووصولاً الى دالية الروشة حيث تتوقف رحلتنا عند كل موقع على شاطئ بيروت عارضةً قصته وملكيته والقوانين التي تحكمه.
حملة "أنقذوا الدالية"
تواجه "الدالية" الروشة في بيروت حيث ينتهي عرض "هذا البحر لي" وهي أيضاً المكان المحوري في مناقشتنا مفهوم الفضاء العام على شاطئ البحر محاولة إغلاقها من الاستعمال العام ومخطط تحويلها إلى فندق فخم. تنضم مجموعة الدكتافون الى ناشطين محليين ومجتمع الصيادين وغيرهم من البيروتيين في حملة ضد إغلاق "الدالية" باعتبارها آخر الفضاءات العامة في المدينة. نشجعكم على توقيع هذه العريضة والانضمام الى الحملة الأهلية للحفاظ على دالية الروشة.
---------
تم تعديل هذه الترجمة الى العربية عن النص الأساسي باللغة الانكليزية الذي نشر في مجلة "أرت-ايست" ليتضمن المستجدات الأخيرة حول "الدالية".